قصة قصيرة
عبدالرضا صالح
رفيقــي ليــل
كان للصبر حدود وجدران صماء لم استطع تجاوزها ، جمعت أنفاسي المثلجة في
بوتقة الصمت وجهدت عاكفة على تحريكها وإعادة الدفء لها ، تطايرت ولم يبق لي
من بلوراتها سوى واحدة ، لكنها انزلقت من كفي وسقطت في رمال الأسى ،
وتناثرت في قاع صفصف فارغ ، وكلما حاولت تداركها انزلق رذاذها المتناثر و
توارى في واد سحيق مهلك يكرهني على السقوط من مرتفعات أمنياتي .
بالأمس
ضاعت نبوءاتي واليوم تلاشت أحلامي ، كرنين الشفق يضحك من صمت السحر،
وآياتي تتمحور في لا شيء ، وغدت أجراسا خرساء تومئ للتيه الممتد بلا فواصل
بالرحيل؛
تساورني الظنون ، وطائرا أغدو على أشلاء حظي ، وكأن الضياع
يوخز أجزائي ويقتل أحلامي ، كانت بكل دقائقها دلالات تنم عن انقطاع غير
مباشر في شرانق انتمائي .
القوقع المغروس في رأسي يبث إشارات مشوشة ومتتالية ، والكائن المزروع في أعماقي لا ينقطع عن اللعب الشاذ والصخب .
منذ زمن بعيد وأنا ارتاد شواطئ المحار .. أغوص في ظلمائها .. وأتجشأ
مخاطرها بحثا عن قوقعة فانية ، تحوي لؤلؤة استضيء بها طريقي الذي فقدته من
زمان ، ولما أجهد في طلبها وامتلكها أحاول الخروج بها من العتمة القاتلة ،
تنطفئ بلمح البصر ، فأعود أبحث عن أخرى حتى تنقطع أنفاسي فاركن إلى الخيبة
واليأس .. وعلى رمال الشاطئ الدافئة القي بجسدي لأستريح من وعثاء الزمن ، و
أعاود الكرة في وقت آخر.
بالأمس تواعدنا على الفرار من المدينة
البائسة عند انتصاف الليل واللقاء قرب الفنار القديم في نهاية الشاطئ
الممتد .. لنضع حدا لأوجاعنا . جمعت أغراضي وعرائسي التي صنعتها بيدي من
الخرق القديمة في صرة بالية , وخرجت خفية مع الليل رفيقا وسترا وأنيسا .
أرخيت والليل العنان إلى أقدامنا .. واستبقنا أنفاسنا ، وعدونا مع الظلمة
نطوي ظلها ، حتى اجتزنا جدران المدينة الخرساء واتجهنا صوب شاطئ الخليج ،
وبعد أن كلت أقدامنا من الجري وافانا الشاطئ الرملي ، وعلى وجهه الممتد
تناثرت أجساد الزوارق القديمة التي تركها أهلها .
طلب الليل مني أن نستريح وننتظر ما دام الوقت طويلا..والتعب مؤلما .
وافقته على ذلك .
وعلى أنقاض زورق هجرته أمواج البحر وعانقته رمال الشاطئ وبات هيكلا تناثرت أضلاعه على ذرات الرمل ، جلسنا .
الليل على صدره وأنا على دفته .
ومضينا كل في سكونه يسترجع همومه .
قطع الليل علي أفكاري وكسر الصمت قائلا :
ـ ما بالكم يا معشر البشر ؟ صار ضجيجكم يستفز الأرض ويؤلم ذاتها فالصقور
تتعاقب على مدينتكم الواسعة صحراؤها بحثا عن فرائس غثا .. فتجدب الأرض عن
خيراتها وتشح السماء عن غيثها .
تكاثرت فيها حانات السكر والدعارة ،
تجول الضباع في شوارعها ، ينثال منها لعاب الجنس المتعفن ، و قهقهات
عاهراتها تسمع من بعيد ألما من أفخاذ تطؤها .. وجدران يحاك خلفها آلاف
المكائد تجتهد في سلخ الجلود وتتفنن في قطع الرؤوس .. فما بال مدينة حمقى ،
تغدوها رياح فاسدة ، يتوارثها المخنثون ويفر منها الفحول .
أما آن لهم أن يفيقوا ؟
ـ من اجل ذلك رافقت الخمرة رأس أبي .. آه ... أيتها الخمرة اللعينة ماذا
فعلت به حتى انسلخت إنسانيته واستحال وحشا مفترسا .. لا تزال بصمات الألم
موغلة في جسدي ...... وأخاديد الضرب أختاما ناتئة .
ـ اعلم ذلك .. فلا شيء يخفى عني ، فانا محيط بكل شيء لقد امتلأ جوفي قيحا من خطاياكم وقصصكم ، ولكني سأظل دوما الساتر لها .
لقد كان الضرب المبرح هواية له وإرغامك التسول غايته ، لينعم بالأنس
والنشوة القصوى وينال فردوسه ـ زجاجة خمر ـ إلهه المحبوب ، لا يهمه ما
تعانين .. فالخمر لديه أهم منك .
ساورني القلق والخوف والشوق ، قطعت حديثه وقلت :
دعنا نمضي لعله ينتظرنا هناك ؟ .
قال : مسكينة أنت تصدقين ما يقال .
مضينا نمشي على ساحل البحر حفاة تداعب أرجلنا موجات صغيرة تنزلق نحونا ،
قطعنا شوطا ثم توقفت أتأمل نجمة تتلألأ في السماء ، خاطبته :
ـ ما أجمل تلك النجمة !.
نظر إليها ثم تأوه وقال بحزن :
ـ إنها آيلة إلى الفناء ، تحتضر، منذ سنين مضت ، ربما تموت هذه الليلة ،
كلما افلت إحداهن نثرت غبارها في الكون واختفت فأستحيل أكثر عتمة وسوادا .
كان الليل يسبقني بخطوات ، لاحت أطلال الفنار من بعيد ، طرت فرحا وركضت
خلفه راقصة اخبره : "انظر .. انظر.. انه هناك ، ذلك هو، السواد المتكئ
على جدار الفنار" . سكت ولم يعلق على خبري ، مضينا نحوه مسرعين ، ولما
اقتربنا توضح انه كلب نائم ، انتابني الغم وأصابني الهم ثم انه تبسم و قال :
أنه يشبهك . قلت : "وكيف" ؟ قال : "هو الآخر تخلى عنه أهله ، ولفظته
المدينة ففر منها " قلت : " فلننتظر لعله يأتي " . قال : لا تمني النفس
.. لو كانت له رغبة بذلك لسبقنا الى هنا .
انتظرنا كثيرا حتى كاد الفجر
أن ينبلج ولم يأت !! ، فبادرني : هل تعلمين إن خفارتي توشك أن تنتهي لهذا
اليوم ، سوف امضي الى مستقري وسيأتي الصبح يحل مكاني .. فاحذريه فانه فضاح
. قلت : وما حيلتي ؟.. إنها حيرة !!.. فانا أصبحت بين نارين ، لا استطيع
العودة الى هناك ولا البقاء هنا ، فكيف السبيل ؟ .
قال : السبيل أمامك
قلت أين ؟!!
قال : البحر.. ثم سكت وأردف :
هل تعلمين ؟ ، إن هذه النجوم بناتي . فاسلكيه وكوني أحداهن .
كانت ( ليلى ) في الليلة اللاحقة نجمة تتلألأ في كبد السماء بين النجوم ، اتخذت لها موقعا خلف ( بنات نعش )
عبدالرضا صالح
رفيقــي ليــل
كان للصبر حدود وجدران صماء لم استطع تجاوزها ، جمعت أنفاسي المثلجة في بوتقة الصمت وجهدت عاكفة على تحريكها وإعادة الدفء لها ، تطايرت ولم يبق لي من بلوراتها سوى واحدة ، لكنها انزلقت من كفي وسقطت في رمال الأسى ، وتناثرت في قاع صفصف فارغ ، وكلما حاولت تداركها انزلق رذاذها المتناثر و توارى في واد سحيق مهلك يكرهني على السقوط من مرتفعات أمنياتي .
بالأمس ضاعت نبوءاتي واليوم تلاشت أحلامي ، كرنين الشفق يضحك من صمت السحر، وآياتي تتمحور في لا شيء ، وغدت أجراسا خرساء تومئ للتيه الممتد بلا فواصل بالرحيل؛
تساورني الظنون ، وطائرا أغدو على أشلاء حظي ، وكأن الضياع يوخز أجزائي ويقتل أحلامي ، كانت بكل دقائقها دلالات تنم عن انقطاع غير مباشر في شرانق انتمائي .
القوقع المغروس في رأسي يبث إشارات مشوشة ومتتالية ، والكائن المزروع في أعماقي لا ينقطع عن اللعب الشاذ والصخب .
منذ زمن بعيد وأنا ارتاد شواطئ المحار .. أغوص في ظلمائها .. وأتجشأ مخاطرها بحثا عن قوقعة فانية ، تحوي لؤلؤة استضيء بها طريقي الذي فقدته من زمان ، ولما أجهد في طلبها وامتلكها أحاول الخروج بها من العتمة القاتلة ، تنطفئ بلمح البصر ، فأعود أبحث عن أخرى حتى تنقطع أنفاسي فاركن إلى الخيبة واليأس .. وعلى رمال الشاطئ الدافئة القي بجسدي لأستريح من وعثاء الزمن ، و أعاود الكرة في وقت آخر.
بالأمس تواعدنا على الفرار من المدينة البائسة عند انتصاف الليل واللقاء قرب الفنار القديم في نهاية الشاطئ الممتد .. لنضع حدا لأوجاعنا . جمعت أغراضي وعرائسي التي صنعتها بيدي من الخرق القديمة في صرة بالية , وخرجت خفية مع الليل رفيقا وسترا وأنيسا .
أرخيت والليل العنان إلى أقدامنا .. واستبقنا أنفاسنا ، وعدونا مع الظلمة نطوي ظلها ، حتى اجتزنا جدران المدينة الخرساء واتجهنا صوب شاطئ الخليج ، وبعد أن كلت أقدامنا من الجري وافانا الشاطئ الرملي ، وعلى وجهه الممتد تناثرت أجساد الزوارق القديمة التي تركها أهلها .
طلب الليل مني أن نستريح وننتظر ما دام الوقت طويلا..والتعب مؤلما .
وافقته على ذلك .
وعلى أنقاض زورق هجرته أمواج البحر وعانقته رمال الشاطئ وبات هيكلا تناثرت أضلاعه على ذرات الرمل ، جلسنا .
الليل على صدره وأنا على دفته .
ومضينا كل في سكونه يسترجع همومه .
قطع الليل علي أفكاري وكسر الصمت قائلا :
ـ ما بالكم يا معشر البشر ؟ صار ضجيجكم يستفز الأرض ويؤلم ذاتها فالصقور تتعاقب على مدينتكم الواسعة صحراؤها بحثا عن فرائس غثا .. فتجدب الأرض عن خيراتها وتشح السماء عن غيثها .
تكاثرت فيها حانات السكر والدعارة ، تجول الضباع في شوارعها ، ينثال منها لعاب الجنس المتعفن ، و قهقهات عاهراتها تسمع من بعيد ألما من أفخاذ تطؤها .. وجدران يحاك خلفها آلاف المكائد تجتهد في سلخ الجلود وتتفنن في قطع الرؤوس .. فما بال مدينة حمقى ، تغدوها رياح فاسدة ، يتوارثها المخنثون ويفر منها الفحول .
أما آن لهم أن يفيقوا ؟
ـ من اجل ذلك رافقت الخمرة رأس أبي .. آه ... أيتها الخمرة اللعينة ماذا فعلت به حتى انسلخت إنسانيته واستحال وحشا مفترسا .. لا تزال بصمات الألم موغلة في جسدي ...... وأخاديد الضرب أختاما ناتئة .
ـ اعلم ذلك .. فلا شيء يخفى عني ، فانا محيط بكل شيء لقد امتلأ جوفي قيحا من خطاياكم وقصصكم ، ولكني سأظل دوما الساتر لها .
لقد كان الضرب المبرح هواية له وإرغامك التسول غايته ، لينعم بالأنس والنشوة القصوى وينال فردوسه ـ زجاجة خمر ـ إلهه المحبوب ، لا يهمه ما تعانين .. فالخمر لديه أهم منك .
ساورني القلق والخوف والشوق ، قطعت حديثه وقلت :
دعنا نمضي لعله ينتظرنا هناك ؟ .
قال : مسكينة أنت تصدقين ما يقال .
مضينا نمشي على ساحل البحر حفاة تداعب أرجلنا موجات صغيرة تنزلق نحونا ، قطعنا شوطا ثم توقفت أتأمل نجمة تتلألأ في السماء ، خاطبته :
ـ ما أجمل تلك النجمة !.
نظر إليها ثم تأوه وقال بحزن :
ـ إنها آيلة إلى الفناء ، تحتضر، منذ سنين مضت ، ربما تموت هذه الليلة ، كلما افلت إحداهن نثرت غبارها في الكون واختفت فأستحيل أكثر عتمة وسوادا .
كان الليل يسبقني بخطوات ، لاحت أطلال الفنار من بعيد ، طرت فرحا وركضت خلفه راقصة اخبره : "انظر .. انظر.. انه هناك ، ذلك هو، السواد المتكئ على جدار الفنار" . سكت ولم يعلق على خبري ، مضينا نحوه مسرعين ، ولما اقتربنا توضح انه كلب نائم ، انتابني الغم وأصابني الهم ثم انه تبسم و قال : أنه يشبهك . قلت : "وكيف" ؟ قال : "هو الآخر تخلى عنه أهله ، ولفظته المدينة ففر منها " قلت : " فلننتظر لعله يأتي " . قال : لا تمني النفس .. لو كانت له رغبة بذلك لسبقنا الى هنا .
انتظرنا كثيرا حتى كاد الفجر أن ينبلج ولم يأت !! ، فبادرني : هل تعلمين إن خفارتي توشك أن تنتهي لهذا اليوم ، سوف امضي الى مستقري وسيأتي الصبح يحل مكاني .. فاحذريه فانه فضاح . قلت : وما حيلتي ؟.. إنها حيرة !!.. فانا أصبحت بين نارين ، لا استطيع العودة الى هناك ولا البقاء هنا ، فكيف السبيل ؟ .
قال : السبيل أمامك
قلت أين ؟!!
قال : البحر.. ثم سكت وأردف :
هل تعلمين ؟ ، إن هذه النجوم بناتي . فاسلكيه وكوني أحداهن .
كانت ( ليلى ) في الليلة اللاحقة نجمة تتلألأ في كبد السماء بين النجوم ، اتخذت لها موقعا خلف ( بنات نعش )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق