أشبه ما تكون بلحظة النوم
"ذلك الشيء المسمى الحياة أسرع من خفق الأوراق الذابلة في الريح"..
هكذا، وبخفقة قلم شعري قادر، يضعنا الشاعر الصيني العظيم لو تشي أمام القطبين
الكهربائيين المغروزين في أعماق حوامض الذات الإنسانية (الموت والحياة)..
حقيقتان ندركهما جيداً، لكنه الشاعر يعود ليضعهما مجدداً أمام التأمل
العميق في كنههما لنواجه ونعيش حقيقة وجودنا المستعار على هذه الأرض، وإنها
والله مهمة الشاعر.
"أن يصارع اللاوجود ليجبره على أن يمنح وجوداً آسراً المساحات التي لا حد
لها في قدم مربع من الورق، وساكباً طوفاناً من القلب الصغير بقدر الوطن،
إنه عمله أن يصارع صمت العالم مع كل ما كان خلواً من المعنى ويضطره أن يكون
ذا معنى"..
انطلاقاً من عظمة الشعر الذي يطلق روح الإنسان جميعها إلى النشاط الحي،
ويشيع نغماً وروحاً يمزج ويصهر الملكات إحداهما بالأخرى (على حد قول الشاعر
كولريدج)، انطلاقاً من هذه العظمة أستقطع وقفة أمام لحظة التجلي الأولى
الأكثر توهجاً.. لحظة الإشراقة الأولى.. لحظة انبثاق القصيدة أو لحظة البرق
الأولى وأهميتها في انطلاق النص الشعري في فضائه، والتي قد تختفي دون أن
يقبض عليها، حيث قال الشاعر بول فاليري: "إن البيت الأول هدية من الله"
مفتتحاً بقوله هذا موضوعاً كان أشبع بحثاً وتمحيصاً، ولشد ما اختلفت شهادات
الشعراء حوله، ولشد ما تفاوتت الآراء وتلونت القصص؛ كل وفق مشاربه ووفق
ظروفه الزمانية والمكانية والمعيشية.. كل وفق حالاته الثقافية والاجتماعية
والسياسية ووفق آفاقه وملكته الإبداعية ورؤيته الشعرية..
كل وفق توقه و طموحاته ووفق إيقاعاته الذهنية، بل كل وفق ما يختزنه وعيه
الشعري من تصورات كبرى وشاملة، ووفق مخزونه الذوقي والمعرفي وتجاربه
الشخصية التي هي، دون أدنى شك، تختلف كل الاختلاف من شاعر لآخر، الأمر الذي
يفضي إلى إدراك الشاعر كيفية تحقيق شعره بالشكل الذي يراه أنه الأمثل، ففي
حين يرى الشاعر عزرا باوند: "إن الشعر هو الأخبار التي تظل أخباراً
جديدة"، يرى الشاعر ت. س. إليوت: "إن الشعر هو قيل كل شيء حركة في ولادته
ونموه وامتداداته". وهكذا تختلف الآراء حوله.
اعتبر العرب الشعر ديوانهم وحافظ علومهم، ومن خلال نظرة شاملة على كل من
الشعر قديماً وحديثاً، نستخلص تيارين اثنين: تيار استلهام القصيدة
واستقبالها كوحي يهبط على الشاعر، وتيار صناعة الشعر، فقد اعتقد القدامى
بأن لكل شاعر شيطان شعر يلهمه الشعر ويوحي له بالقصيدة، فتفاخر البعض
بفحولة شيطانه وكرمه، فسمعنا الراجز أبو اللجم العجلي يتفاخر بشيطان شعره
وفق الأخلاق التي كانت سائدة آنذاك فهو يقول على سبيل المثال:
"إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني بشر"
كما يؤكد شاعر آخر ذلك بقوله:
"إني وإن كنت صغير السن فإن شيطاني كبير السن"
فكل من الفحولة وكبر السن صفات ترفع من شأن عبقر، هذا إضافة إلى ما اشتهرت
به قصة الشاعر الأعشى حين قال له مسحل بن أثاثة:
"ليفرخ روعك يا أبا بصير، أنا هاجسك الذي ألقى على لسانك الشعر.. الخ.
من كل ما سبق نستنتج أن الشاعر لم يكن يطلب القصيدة ولا يسعى إليها جاهداً،
هي التي كانت تأتيه.. تهبط عليه.. تناديه، فيستلهمها استلهاماً.. لم يكن
صانعاً لها ولا ناحتاً إياها، بل تتقدم إليه كهدية.
ولبدوي الجبل الباع الطويل في استلهام القصيدة، فكانت تأتيه القصيدة في
غفلة، بل الأصح في لحظة إشراق سامية يكون فيها في ذروة التجلي، فينصاع لها،
ماسكاً مطلعها، مدوناً إياه على ظهر علبة الكبريت، أو على أية قصاصة ورقية
يحظى بها فور أن يمسك خيطها الذهبي، وطبعا يمكننا الاضطلاع على العديد من
قصص هذا الشيطان الشعري في قصص العرب مما يوضح لنا الفرق الشاسع ما بين أن
تصنع القصيدة نفسها مقتحمة مناخ الشاعر الذي تختزل مهمته بنقل القصيدة،
فيبدو دوره كالرسول الناقل للرسالة، وبالتالي يشبه دوره إلى حد كبير دور
المترجم للنص عن لغة أخرى، فيصبح النص نصاً آخر، وما يكتب (الشاعر) قصيدته
بالشكل الذي يريد والقالب الذي يختار والموضوع الذي يقرر.
المدرسة الرمزية
لا يمكن لنا أن نغفل لما للمدرسة البرناسية والمدرسة الرمزية من أياد طولى
في جعل الشاعر سيد اللغة الشعرية وصانعها، نافية بذلك العفوية، بحيث كان
الشاعر أشبه ما يكون بالنحات الذي يحول الحجر بوعي وحذق وبراعة، شأن الشاعر
سعيد عقل وغيره. وأود أن أنوه هنا عن إلياس أبو شبكة حين وصف الشاعر سعيد
عقل ونعته بالنجار، حيث رد الشاعر سعيد عقل بدوره على الرومانسيين ناعتاً
إياهم بالميوعة. هذا الاختلاف في وجهات النظر الشعرية يؤكد لنا وجود تيارين
مختلفين، والأمثلة أكثر بكثير من أن تجمع في هذه المساحة الورقية أو في
هذه العجالة.
قصيدة النثر
قصيدة النثر بشكل عام تمكنت أن تتبرأ من مدعي الكتابة بالوحي والإلهام،
مقدمة لنا كاتباً واعياً بالكون وملحقاته، بحيث بتنا نرى جيلاً من الشعراء
يصنعون قصائدهم صناعة؛ فالنص من وجهة نظرهم ليس منزلاً، حيث قرأنا قول
الشاعر محمد الفيتوري: "أنا لا أنتظر الوحي كي ينزل علي ولا أنتظر أن يأتي
إلي عبقر الشعر، بل أنا الذي يذهب إلى عبقر". بمعنى أنه بات بعد مسيرة
كتابية طويلة شاعراً متمرساً في كتابة الشعر، قادراً على أن يستحضر الشعر
في اللحظة التي يشاء.
وارتكازاً إلى ذلك، بات بإمكان الشاعر أن يغير في قصائده ويبدل، وكلنا سمع
بالحوليات، ثم إن محمود درويش اعترف بدوره بأنه يكتب نصه ثلاث مرات.
بعد هذه المقدمة الطويلة، لا يسعني إلا أن أقول إن لكل قصيدة باعها، ولكل
قصيدة إشعاعها، وإن صدف ذات يوم أن اقتحمني مطلع قصيدة ما، بلحظة إشراق
وسموٍ وتجلٍ نازلاً علي كشلال ضوء من دماغ قلق، فإن ذلك من دواعي الصدف لا
أكثر، حيث لكل قصيدة طقسها الخاص تمتاز به عن غيرها، وأنا التي كان الشعر
دائماً نبضاً بيدي، ولقمتي الطازجة، والصوت الذي يدق باب المستقبل بكل ثقة،
وفيه يكبر العالم والكون والإنسان، والذي كان العصفور المختبئ بدمي كل
مساء، والرغبة الصارخة في معبر الدم، وعبوة حبري المراهن على أحلام تسقط
لذاتها كنجوم على الدروب، والذي هو الاغتسال من النوم الكاريكاتوري بحيث لا
يضيع الحاضر بحثاً عن الظلال الباكية، بل مراهقتي باللغة بحيث أنصف به
آدميتي وأعادل به زمني ومزاجي، والذي أحتفظ به أيقونة تلم كل العصور
وتستحضر كل المناطق، والذي هو شكي حين أشربه ومعه الهاوية، وهو الخوف
الصارخ بالعراء، بل هو الدم فتحة في النشيد والجمال الماضي نحو شاطئ
المعنى، بل لأقل إنه قاتل الملك على رقعة الشطرنج، والطفولة التائهة تحت
بروق السماء، والعابثة بحصة النبع، هو اللاجئ إلى أناملي سياسياً، وهاربا،
بل القادم إلي من براق ظميء، والصاعد بي بسهولة إلى القمر، وهو الشكل
السامي لشهوات الخيال الأولية، وووووو، ولن ينتهي القول حيث أن الأكثر
أهمية هو موقف الشاعر والزاوية التي يسلط منها الضوء على مادته الشعرية،
وهذا يختلف من قصيدة لأخرى، ومن زمن لآخر، ومن شاعر لآخر. يختلف في الشكل
والمضمون والهدف، وإني لأرى أن الشاعر الذي يستلهم القصيدة فتهبط عليه فجأة
كومضة أو كبرق خاطف فيسرع لالتقاطها ونقلها وكأنها قصدته من الغيب (كمن
يغفو على حلم صغير فيستفيق فجأة من غفوته ليرى أمامه قصراً من الرخام
الأبيض الناعم، وقد شيدت حوله حديقة غناء نهضت أشجارها وامتد سندسها وتفجرت
زهورها، وليرى السماء الربيعية الزرقاء الصافية تغني بها أسراب العصافير
ويلعب بها النسيم العذب فوق أبهة جمال حوريات أشبه بحوريات الجنة، تلهج
بمجده وخصائصه ورؤاه واهتماماته وأحلامه.
لكن، على الرغم من جماليات الحلم وروعة الخيال، إلا أن الحقيقة تؤكد عدم
وجود النص المنزل في الواقع، والذي يصلح لكل الأزمان، وتدركه الأذواق على
اختلاف مشاربها، وإلا للبس كل شاعر لبوس الأنبياء، ولكان الشعر دستوراً لا
يصح الإحجام عنه أو خرقه أو تغييره.
بعد هذه المقدمة الطويلة حول الصنعة والإلهام، أستقطع منها وقفة لي حول
تجربتي الشعرية فأقول: إن الشعر ككل هو هدية من السماء لا مطلع القصيدة
فحسب، لأنه المعادل الموضوعي لكل ما يعتري الإنسان من هزائم وانتكاسات سواء
على الصعيد النفسي أو الصعيد الوطني أو الصعيد الثقافي، ووو..
ولحظة الإشراق، أو لحظة انبثاق القصيدة إن صح التعبير أو لحظة إمساك الومضة
الأولى، هي لحظة الروح حينما تكون في ذروة تجليها؛ مشحوذةً.. شفافةً..
رقيقةً.. طائرةً.. لحظة جماليات الرؤية ورفعة الذوق وصقل الحس.. لحظة أن
يكون فيها القلم قيس والورقة ليلى يجوبان الآفاق الرحبة الشاسعة، غارقين في
أجمل العوالم وأشدها غرابة، مكتشفين بانسجام تام الكون وعلاقاته بالإنسان
ومكنوناته، نزقين تارة وفرحين تارة أخرى، راكضين متقافزين أو طائرين بأجنحة
البهجة. لحظات الشاعرية القصوى حينما تكون المحرض الأعظم لتراكض القلم
وتلهف الحبر وتراقص الكلمات وتسابق الرؤى وتزاوج الصور وتلهف الكلمات..
لحظة أن يستلم الشاعر صولجانها فيحكم بسطوة الشعر، وتوق الشاعر المستغرق
بهناءة أكوانه ونقاء عوالمه وغرابتها وصدق دوافعه وتلونها. هذه اللحظة كيف
لي أن أمسك بخيطها الذهبي أو بوميضها الساحر وهي أشبه ما تكون بلحظة النوم
التي طالما فكرت بصغري أن ألتقطها أو أن أصفها أو أن أمسك بها لكن دون
جدوى.
الحق يقال إن قصيدتي "دولة الطير" كتبتها بطقس مختلف كل الاختلاف عن غيرها
من القصائد، حيث استيقظت من نوم عميق لأجلس إلى مكتبي فأكتبها دفعة واحدة،
وكأن هناك من كان يملي علي هذه القصيدة، علماً بأنني من أنصار صانعي
القصيدة، إذ طالما كنت تنكرت ونظرت بازدراء للاعتقاد الذي كان سائداً عن
وجود (شيطان الشعر عبقر)، وفكرة هبوط القصيدة فجأة ودون سابق إنذار على
الشاعر..الخ. هذا علاوة على أنني ملمة كل الإلمام بكل الأبعاد والتفسيرات
والتوضيحات العلمية الخاصة بهذا الموضوع، وبناء على هذا فقد كانت دهشتي
كبيرة وأنا أنجز قصيدة "دولة الطير" بهذه الطريقة، فقد كنت كمن ينهى عن أمر
ويأتي بمثله. كنت وكأني أحذو حذوهم، ولم يكن الأمر مقصوداً، بل عفوياً.
أنا التي كانت تؤكد دائماً وتقول: إن الشاعر الذي يمتلك أدواته والذي لديه
الملكة الشعرية القادرة إنما يمضي إلى القصيدة وفق مشيئته دون أن ينتظر
القصيدة لأن تأتيه. والحق يقال: لقد كنت قرأت قبل أن تواتيني قصيدة "دولة
الطير" كتاباً رائعاً عن حياة الطيور، وأعجبت به أيم إعجاب، ولا أنكر بأنها
استوقفتني قضية هجرتهم أسرابا؛ هذه الهجرة التي يقطع بها بعض الطيور
محيطات ووديان وبلدان ويهاجرون لفترة طويلة من الزمن ثم يعودون وكأن ثمة
دليل يستدلون به على الطريق.
أما كيف تحول استغرابي إلى قصيدة ذات إسقاطات، يمكن أن تنطبق على الإنسان
بقضية هي من أهم قضايا الساعة (العودة)، فهنا باعتقادي تكمن قدرة الشاعر
ومعجزة الشعر، أما القصيدة الثانية التي أتتني على حين غرة، فتلك القصيدة
التي واتتني بينما كنت أتحدث عبر الانترنيت مع الشاعر إبراهيم المصري. أذكر
أنني قلت له: أكتب يا إبراهيم. وكتب الشاعر الصديق أول مقطع لي من قصيدة
سرعان ما تبعه بمقطع منه رائعاً هكذا وبالتناوب إلى أن أنجزنا معا أجمل
قصيدة مشتركة عفوية سلسة ورائعة دون سابق إنذار، وقد نبتهل ذات يوم سانحة
لنشر هذا العمل المتميز على أكثر من صعيد.
أما بقية قصائد دواويني الثلاثة: "نار منك تتبعني"، و"المستأنس في
ينابيعه"، و"الحب زحف مقدس"، فكان لكل قصيدة طقسها الخاص ودوافعها المختلفة
والمتنوعة وشكلها ومضمونها المختلف أيضاً، وكنت أستعد لكتابة القصيدة بشحذ
كل حواسي وصهر عواطفي واستحضار كل إيقاعاتي الذهنية والذوقية والمعرفية،
وكل رؤاي الشخصية، ثم أغتسل وأتعطر وأرتدي الفستان الزهري، أتجنح كي أدخل
القصيدة وأنا بحالة من الاستغراق والتأمل العميق، حالة أشبه بحالة
النرفانا، وقد ذكرت ذلك في إحدى قصائدي حين قلت:
"لا أريد عقل الحب
لا أريد حكمته
سأتجنح الآن
وأدخل القصيدة
بصراحة
أنا بحاجة إلى الدلال".
هكذا نرى بأن لكل قصيدة إشراقاتها وأسبابها، وأن كل قصيدة تختلف عن القصيدة
الأخرى كما تختلف آراء الشعراء بالتنظير حول الشعر أو تعريفه، وهو كما
الحب كما السعادة كما الفضيلة عنوان عريض وواسع رحب لا يعرف.
فاديا الخشن / الحياة الجديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق