الخميس، 2 يناير 2014

خليل شوقي..عبقرية التمثيل /مقالة الدكتورة اقبال نعيم

خليل شوقي ... عبقرية التمثيل. ..
أوجاع ومسرات " الخال " خليل شوقي علي حسين أحالتني الصورة الأخيرة لفنان الشعب " الخال " خليل شوقي كما كان يحب أن اناديه .. إلى سنوات كان فيها هذا الفنان الكبير ملْ السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقر رمزاً يدين له العراقيون جميعا بالحب والامتنان.. انظر إلى صورة " الخال " فألمح في عينيه الغربة والحيرة .. فالرجل الذي عشق التجوال في شوارع بغداد، يسير اليوم وحيدا في شوارع لم يألفها غريبا ومغتربا وهو يفتش عن مجتمع دافئ ومكان أليف وزمن سوي يعترف بالإنسان والضحك وحرية اللسان وشقاوة الأصحاب وترف الأمسيات.. اغمض عيناي وانا اتخيل صوته الرنان ممتزجا بعبارات بغدادية عذبة: " سليمة خاتون الدنيا تغيرت تركض ركض لازم واحد يلحك بيها " ونرى بغداد كلما طلع علينا الخال خليل شوقي بقامته الفارعة من على شاشة التلفزيون ونشم عبقها حين يهمس مصطفى الدلال : "سليمة خاتون تره أني مقصر" ونحس نبضها في ملامح زاير ونرى تضاريسها في عيون عبد القادر بيك الماكرة، وهو يقول "لك رجب أتريد تقشمرني تالي عمري" .. فنشعر أننا إزاء شخصية حملت في جوانحها كل أفراح وأوجاع وأحزان ومسرات العراقيين. *** ينتمي خليل شوقي إلى طائفة من الممثلين الأثيرين على قلب المشاهد.. ممثل يتمتع بعبقرية لها طعم خاص يترك أثراً في النفس.. حين تشاهده تشعر وكأنك قرأت كتابا ممتعا.. فعند هذا الفنان قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة ، فعندما يقف الخال على خشبة المسرح يكون عقله وقلبه وأعصابه جزءاً من الأداء، فيعطي كل ما عنده في البروفة والعرض المسرحي فتراه عندما يبكي على المسرح هو الذي يبكي وعندما يضحك هو الذي يضحك وعندما يبدع الشخصية لم يكن يتوارى خلفها وإنما يقف بالند منها.. كتب ستانسلافسكي مرة :" إن على الممثل أن يكون مخرجا لدوره وهو لم يقصد بالطبع أن يضع الممثل مكان المخرج بل أراد التحدث عن أهمية المبادرة عند الممثل وعن رؤيته الواسعة ودرجة مهارته"، وهكذا كان خليل شوقي في معظم أدواره، ذكياً يعرف ما يفعل. انه لا يؤدي الدور وحسب بل يقوم بتفسيره والتعبير عن وجهة نظره تجاه الأشياء والشخصية التي يؤديها ويمكنك مشاهدته منفردا وحده، فتستمتع وكأنك تشاهد مسرحية بطلها ممثل واحد ولكن بنفس الوقت تراه يخضع بحكمة وهدوء للعمل المسرحي الكلي.. في المسرح والتلفزيون يتصرف خليل شوقي كأنه شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة الخارجة من حضن الأحلام بسدارة بغدادية أو يشماغ جنوبي وابتسامة محببة إلى النفس فيخطف قلوب وإبصار المتفرجين وهو يؤكد: "لست متعلقاً بالشخصيات البغدادية فقط وإنما أنا متعلق بمجمل الشخصيات التي مثلتها لذلك أطلق عليها تسمية الشخصيات المنحوتة بطريقة زخرفية معبرة جدا "وهو هنا يعي جيدا ما قاله ستانسلافسكي من أن معايشة الدور تعني أن على الممثل في كل مرة وعند كل إعادة أن يحس ويفكر بصدق.. وهو يدرك أن المسرح فن للعب مثلما هو فن للمعايشة ولأجل اللعب يجب أن تكون موهوبا ولأجل المعايشة على المسرح يجب أن تمتلك الموهبة والثقافة وان تدرس وتفهم الكثير عن هذه المهنة وقوانينها. وقد اعتقد خليل شوقي أن الممثل يجب أن تتاح له طرق الخروج من القوالب التمثيلية الجاهزة وهو يدرك أن الممثل : " يجب أن ينظر إلى الحقيقة في السلوك الواقعي" ووفقا لتعاليم ستانسلافسكي التي يعشقها الخال خليل شوقي فإن العناصر السحرية للتمثيل يجب أن تجمع بين موهبة الممثل وقدرته على التخيل . لعلنا نتساءل أين يكمن سر وسحر خليل شوقي الممثل ، إن كل لمحة من إبداعه من الممكن أن تقدم لنا مفتاحاً وتكشف لنا لغزاً، فهو بحساب السنين والأعمال التي قدمها كان شاهد إثبات على البداية الحقيقية لتاريخ التلفزيون العراقي عندما قدم أولى الأعمال التلفزيونية عام 1965، فنحن أمام مساحة عريضة امتدت لأكثر من نصف قرن لم يغادر خلالها موقعه في أذهان الناس ولم يسمح له الجمهور بأن يترك مكانته في قلوبهم ، وهو في حساب الأرقام صاحب اكبر رصيد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية. ولكن من قال إن الفن بالحساب والعدد فقط.. إن هذا يمثل بعداً واحداً للصورة ويبقى الأهم والأقوى تأثيراً من الحجم إنه العمق.. يبقى التنوع.. يبقى التأثير.. يبقى.. يبقى.. يبقى.. أشياء عديدة لا تستطيع سطور قليلة كهذه أن تمسك بها. *** من بين الشخصيات التي تسحر خليل شوقي وسحر بها المتفرجون شخصية البخيل وقد أداها في المسرح من خلال عملين مهمين؛ الأول بغداد الأزل بين الجد والهزل، حيث منح شخصية البخيل حيويتها التاريخية بشكل عكس صورة البخيل، مختزلا من خلال أدائه الأنيق أخلاقيات البخلاء في مجمل التاريخ العربي، معتمدا إشارات واضحة في الصوت وخطوات قصيرة في الحركة تكشف عن دواخل الشخصية، والشخصية الثانية شخصية دبش في مسرحية القربان المعدة عن رواية غائب طعمة فرمان وهنا منح شخصية البخيل الحيوية والقبح في آن واحد من خلال حركات وإيماءات وإشارات ذات مدلول اجتماعي تعبر عن شخصية البخيل في التراث البغدادي المعاصر فكان دبش في نومه أو مرضه أو تعامله مع الناس صورة للكائن القبيح، أما في التلفزيون فما زالت شخصية عبد القادر بيك البخيل القافز بمكر نحو طبقة اجتماعية جديدة حاضرة في الأذهان من خلال التقنية الفريدة في الإلقاء التي اتبعها خليل شوقي وحركة الرأس التي اختصر من خلالها سلوك الشخصية التي انبثقت فجأة لتحاول السيطرة على كل شيء. أما الشخصية الأهم في تاريخ خليل شوقي الثري بالإبداع فهي شخصية مصطفى الدلال في ملحمة غائب طعمة فرمان "النخلة والجيران" تدور أحداث مسرحية "النخلة والجيران" في أحياء بغداد الفقيرة وزمنها هو زمن الحرب العالمية الثانية والاحتلال الانكليزي للعراق، في هذا الزمن تقف شخصيات "النخلة والجيران" على مسرح قاعة الخلد ببغداد عام 1969، مكسورة تدور في حركة عاجزة.. تتلمس الأشياء ولا تدرك حركتها.. هناك نشاهد سليمة (الراحلة زينب) تنغلق على أحزانها الدائمة، تعيش من تراكم الألم ولسعة النار والنهوض مبكرا تلقي بها تجربتها في الحياة بين أنياب مصطفى "خليل شوقي" الدلال الحالم بنجاح وحيد في حياة مسارها الفشل، يفتش عن النجاح في بيع مهربات انكليزية فيأخذ نقودا سليمة ويعطيها للأوهام، مقنعا نفسه والآخرين بأن الانكليز باقون في بغداد إلى آخر العمر.. مخلوق جدير بالرثاء محكوم ببيئة تتحرك على مسرح الفقر الكلي وهو يكشف عن فقر في الجسد والفكر والروح حين يقول : "أوف سليمة لتصيرين أقسى من الانكليز"، وقد ذكر لي الخال خليل شوقي في حوار اجريته معه نشر في أوائل الثمانينات انه حين وقع عليه الاختيار لتمثيل هذه الشخصية كان قد قرأ رواية غائب طعمة فرمان ولكنه أثناء التدريبات راجع شخصية مصطفى الدلال من جديد، محاولا استيعاب شرح الروائي لتفاصيل الشخصية، وايضا لإيجاد توازن بين الشخصية في الرواية والإيحاء التمثيلي على المسرح: "لقد خرجت بنتيجة واحدة لو أردت أن أكون مصطفى الذي رسمه غائب روائيا فلن استطيع أن أكون ممثلا على المسرح... لماذا... لأنني سأضع القضية بشكل مطاطي.. تفقد صفة وحقيقة الحياة على المسرح.. بمعنى أنها ستكون مقولبة تتحرك وتحس وتقوم وتجلس بحساب ونحن نريدها أن تقوم وتجلس وتنظر بمعاناة.. فالممثل يقلق ويضطرب أمام أعين المتفرجين". وقد اعتمد أداء خليل شوقي لشخصية مصطفى ، على عنصرين مهمين: الأول: ترك مساحة للارتجال مع الجمهور داخل إطار محدد وهو يمتلك في الوقت نفسه قدرة في السيطرة على الموقف تمكنه من الخروج والدخول في سياق الحدث العام. الثاني: الاسترخاء.. حيث هيأ خليل شوقي الممثل المناخ الأفضل لتقمص شخصية مصطفى، مهيئاً لها فرصة للتحكم في الموقف والسيطرة عليه. لقد استطاع خليل شوقي أن يقدم شخصية مصطفى بطبيعتها وهي تفيض حيوية على المسرح فكانت المسرحية والدور من أجمل وأرقى ما قدمه المسرح العراقي. *** انظر إلى صورة "الخال" خليل شوقي وأجد في عينه الأسى على أيام وليالٍ يمضيها غريبا في مدينة هلامية مثل كل مدن الغربة.. وفي غروب لا يشبه غروب بغداد.. وفي لحظة تتداعى فيها الأمكنة والأزمنة هناك يطلق "الخال" كل يوم أغنيته الحزينة الشبيهة بأغنية التم،التي اخبرنا فيها العجوز فاسيلي بان لاشئ تبقى سوى ظلام في ظلام .. بل هوة دكناء سحيقة .

هناك تعليق واحد:

  1. تبقى العزيزة الدكتورة عواطف نعيم تملك وفاء لكل الفنانين وتغلن دائما محبتها واحترامها لهم وهي اذ تتناول شخصية الخال خليل شوقي انما هي تتناول بغداد بكل ال700 عام بعد غزوها وابادة اهلها لخمس مرات خلال ال السنوات التي ذكرتها والمحاولات العقيمة لطمس معالمها . الف الف تحية للدكتورة ولزوجها الرائع غزيز خيون وانحنائة مسرحية للرائد القدير خليل شوقي ودموع استغفار لبغداد

    ردحذف