من معجزات (فدعة) الازيرجاوية/د.حسين سرمك حسن
فدعة ....من يحصل عليها اليوم بعد انقضاء المعركة ؟
من معجزات (فدعة) الازيرجاوية
د . حسين سرمك حسن
قبل سنوات، وبعد ان استشهد اخي (عباس) وغولة الحرب، تنتقي اللقى النادرة، فاختطفت اخانا الأصغر والأجمل وبعد ان رزق بمولوده الاول بشهر اصبحت ( نواعي) الشاعرة العراقية( فدعة) هي سلواي لليال مؤرقة طويلة.. ف( فدعة) هي ( خنساء) العراق التي وقفت شعرها على رثاء اخيها القتيل(حسين)، مثلما وقفت الخنساء شعرها على اخيها( صخر بن عمرو بن الشديد) فجعلته علماً في رأسه نار كما تقول في واحدة من قصائدها.. ووفق تعليمات الوصفة العراقية النفسية المجربة التي تقول: ان علاج ضيق الصدور هو زيارة القبور، ومن اجل علاج اكثر دقة ونجوعة، فقد بدأت باستكشاف المعاني العميقة لشعر هذه الشاعرة والوقوف على الجليل من تراكيب صورها الفذة، فوجدت اعجازاً فريداً ولايصدق، خصوصا ان هذه الشاعرة هي امرأة امية من ناحية وعاشت في بيئه محطمة حضاريا من ناحية ثانية وفي زمن ( قبل اكثر من قرن ونصف) مظلم كان العراق فيه مقطوعاً عن الاتصال بالمنجزات التكنولوجية الحديثة من ناحية ثالثة. هناك تشبيهات لاتصدق، وصور لايمكن ان تتوفر لشاعرة امية مثلها عاشت في مجتمع ينخر في جسده المرض والجهل والفاقه، والاكثر اثارة للعجب هي استخدامها معلومات غير موجودة في الثقافة العراقية ومثلت بالنسبة لي لغزا محيراً، واليكم بعضاً من تلك الاكتشافات الباهرة:
1 ـ تقول” فدعة “ في مديح اخيها” حسين “ واستعراض شجاعته الفائقة وخصاله البطولية:
يطك طكه الساجه عن الفيل
ياليث الجوافل منه اتميل
وهنا تطالعنا مسألة محيرة تتعلق بمرجعيات صورة البيت الاول فالساجة هي واحدة الساج والساج هو ضرب من الشجر من الفصيلة الارشدية يعظم جداً، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير، وخشبة صلب جداً، المعجم الوسيط، الصفحة 478 ـ الجزء الاول ـ وهذا النوع من الشجر غير موجود ( في منطقة الفرات الاوسط حيث عاشت الشاعرة ثم اين شاهدت فدعة ( فيلاً) في حياتها؟ والادهى من ذلك انها تصف طقساً دقيقا للفيل شاهدناه في افلام السينما مؤخراً، وهو ان الفيل يقف قرب شجرة الساج ويمضي وقتاً وهو يحك جسمه باغصانها الى ان ينكسر الغصن ويصدر صوتا ”طقة او طكه“ مدوياً، قد يؤدي الى اخافة اي حيوان يتربص به، وينطبق هذا التساؤل على وصف اخر اطلقته على أخيها تقول فيه:
اشهدي للولد يامن شذبتي ازلوف
( درفيل) البحيله ياليهدم الطوف
البعض يعتبر الدرفيل هو حيوان الفيل، ومتى شاهدت فدعة فيلاً يهدم حائطا في بيتها؟ واذا اعتبرنا الدرفيل ـ كما يرى البعض الاخر ـ هو حيوان (الدلفين) يصبح الامر اكثر اثارة للدهشة. وهناك تفسير اخر لمفردة الدرفيل وهو انها تعني الماء الجارف وفيها يمكن ان يستقيم معنى البيت نسبياً.
2 ـ تصف فدعة حجم فجيعتها ودرجة حزنها على اخيها وابيها من قبله، فتقول:
ياعلتي من كبر( نفر)
او تشجي الزغر وتريد تكبر
لونها بصخر ماع او تفسر
ولونها ابسبع جار وتمرمر
ولونها بشجر ماجان خضر
امنحجي يبويه اتصير منكر
و( نفر) هي مدينة سومرية قديمة موقعها الاثري قائم الان قرب بلدة( عفك) في الديوانية. وقبل اكثر من قرن كامل كانت بغداد العاصمة عبارة عن بلدة صغيرة فكيف كانت حالة الديوانية، ثم عفك ومن بعدها نفر؟ من المؤكد ان واقع ( نفر) الجغرافي والسكاني قبل اكثر من قرن كان واقعا بائسا ومزريا ولايمكن لشاعرة ذات مأساة هائلة مثل فدعة ان تجعلها مرجعا تقيس عليه محنتها المدمرة. في داخلي تفسير اخر اعتقد انه يعتمل في ذهن القارئ النابه وهو يعيدني الى طرح موضوعة المناقشة التي نشرتها في ثقافة شعبية قبل اشهر وكان عنوانها: هل الشعر الشعبي وراثة؟ واقترحت التفكير في الموروث السومري المختزن في اللاشعور الجمعي للشاعر الشعبي العراقي.
3 ـ تثور تساؤلات مشابهة لتساؤلات الفقرة الاولى حين تصف فدعة مكان عرس الاسد او تزاوجه مع لبوته وذلك في معرض مديحها لاخيها حيث تقول:
ياحسين ياسور المكلّس
ياكصورة وبثياب عّرس
و(الكصوره) هو ( القسورة) اي الاسد، اما ( شباب) فمعناها كما يقول الحاج( عبد الحسن السوداني) الذي وضع كتيباً عن فدعة اصدره في عام 1967 ثم اعاد طبعه عام 1990 هي مجموعة الشجر العامي الكثيف التي يعّرس فيها الاسد. وقد شاهدت قبل سنوات فلما تلفزيونيا عن حياة الاسود ووجدت ان المواقعة بين الاسد ولبوته تتم خلف شجر كثيف يجعل من الصعب على المصور التقاط صورة دقيقة لما يجري. المهم ان ملاحظة فدعة هذه تتطلب ملاحظة عيانية لسلوك هذا النوع من الحيوان وهو كما نعلم نوع غير موجود في البيئة التي عاشت فيها. وحتى لو افترضنا جدلا وجود نادر لهذا الحيوان في منطقتها فان هذه الملاحظة عن سلوكه الجنسي تتطلب اقتراباً كبيراً من هذا الحيوان المفترس. ومن دون ذلك فان الامر يتطلب ثقافة تفصيلية وواسعة وهو امر مستحيل المنال في تلك البيئة وفي تلك الايام.
4 ـ شرط الثقافة الحالية هذا يعود الى اذهاننا حين نتفحص شعر فدعة، في مواضع عديدة، منها على سبيل المثال الابيات المتبقية من المقطوعة السابقة التي تحدثت فيها عن سمات اخيها الخارقة ووصفته بالاسد، تقول فدعة:
( ينحت) مبارد ماتدرس
حجره عجم وبابها املس
ذيب العلى الفطمه اتغلس
موس ابشحم مايتهيس
نكله فرز يالهذا او بس
ولنتساءل اولاً، من يستخدم مفردة( نحت) بهذه الرهاوة؟ الا تتطلب هذه المفردة وعياً عالياً بمعناها ووقعها النفسي؟ اليست هذه المفردة من مفردات المثقفين في ايامنا؟ وقد تكون مفردة النحت قد انحدرت الى فدعة بفعل ثقافتها الدينية من قوله تعالى” وينحتون من الجبال بيوتاً “ و” وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً امنين “ ولكن معنى النحت هنا: القطع، اي ان فدعة ستقصد هنا فعل النحت الحقيقي، وماذا ينحت اخوها حسين؟ انه ينحت( المبارد ـ جمع مبرد) التي تحد الحديد!!ولاتعود مفردة( ماتدرس) على المبارد من ناحية انها صلبة لاتتقادم ولاتتآكل، ولكنها تشير الى الممدوح الذي اتقن المقدرة على النحت دون ان يدرسها على يدي معلم. وانظر الى هذه الصورة الرائعة التي يعكسها البيت الثالث، ففطيمة الغنم الطرية العود هي اعز طعام على قلب الذئب المفترس، لذيذة وعاجزة ولاتتعب فكيه، لكن ما الذي يفعله اخوها الذئب؟ انه ( يغلّس) عن الصيد الثمين زاهداً لانه مترفع عن الدنايا مهما كان طعم الغنيمة آسراً، ولكن فدعة تكمل ملامح صورة هذا التواضع المقتدر بالاشارة التي تثير القشعريرة في الروح والبدن، فأخوها القوي الحيي هو ـ في نفس الوقت ـ كالموسى التي لايسمع صوتها وهي تقطع اجساد خصومه.
اما البيت الاخير فانه سيعيدنا الى ساحة التساؤلات عن الثقافة الفردية والجماعية ومصادرها فـ( نكلة فرز) هي النقلة الفاصلة والحاسمة في لعبة” الشطرنج “ التي يعد القائم بها فائزاً باللعبة، انها نقلة مميتة. فهل كانت لعبة الشطرنج شائعة لدى( الخزاعل) انذاك؟ ام انها كانت لعبة الشيوخ واطلعت عليها فدعة زوجة شيخ ـ تزوجها ابن عمها( محمد) رئيس بني زريج بعد ان قتل اخاها! ـ؟
5 ـ تتحدث فدعة عن مواقع جغرافية تعكس ايضاً جانباً من ثقافتها واطلاعها الواسع، تقول:
ياحسين خويه جبل( كرحوت)
اليصعد يمتحن والينزل يموت
بحر اتكالب بيك كل حوت
عقلك جسر ياهو اليجي يفوت
وجبل ( كرحوت) حسب المصدر السابق ـ هو” جبل بين البصرة والاحواز، لم يصعده احد لكبره ثم تقول في موضع آخر:
جبل ( قاف) ابو مدلول وازهك
حسين ياصندوك مغلك
ياخوي كلب اختك تمزك
اي انها ترى ان اخاها اكثر شهوقاً من جبل( قاف) فماهو جبل( قاف)؟ في موروثنا الديني، ورد في كتاب” جامع الاخبار “ للشعيري، ونقلاً عن كتاب” عجائب الملكوت “ لعبد الله الزاهد، ان النبي محمد” صلى الله عليه وآله وسلم “ سئل عن عرض قاف وطوله واستدارته فقال(ص) :” مسيرة عرضه الف سنة من ياقوت احمر، قضيبه من فضة بيضاء وزجه من زمردة خضراء له ثلاث ذوائب من نور ذؤابة بالمشرق وذؤابة بالمغرب والاخرى وسط السماء “ و” ذكر انه لما مر عليه ذو القرنين رأى حوله جبالاً صغارا فناداه يا(قاف) ماهذه الجبال التي حولك؟ قال عروقي، ليس في الدنيا مدينة الا وفيها عرق منها، فاذا اراد الله تعالى ان يزلزل ارضا امرني فحركت ذلك العرق فتزلزل تلك الارض، فقال الاسكندر، هل وراءك شيء؟ قال: نعم، ارض طولها خمسمائة عام في خمسمائة عام، فيها جبال من ثلج تحطم بعضها بعضاً، ولولا ذلك الثلج لاحترقتم في حرجهنم “ وعن نفس المصدر ان الامام جعفر الصادق (عليه السلام) سئل عن معنى(ق) فقال(ق) جبل محيط بالارض، وخضرة السماء منه،يمسك الله الارض ان تميد بأهلها “
ان حب فدعة لاخيها القتيل هو حب لاحدود له ويتطلب وقفة تحليلية عميقة من الناحية النفسية لاستكشاف الغاز هذا التعلق المفرط، وقد يكون ذلك في مناسبة قادمة باذن الله.
6 ـ وتنم توظيفات الموروث الديني في شعر فدعة عن فهم حاد لرموزه واستيعاب عميق لمعانيه، تقول في رثاء اخيها لتجسد عظيم حزنها عليه:
ياتون الك ياحسين ثاجب
مابين صلبي والترائب
اي ان حزنها يشبه موقد نار الحمام بلهيبه الحارق المضطرم لايهدأ ولاتخفت السنته، اما مكان هذا الموقد الثاقب ابداً فهو بين الصلب والترائب، وهي توظف بذلك الاية القرانية المعروفة. وتقول في مديح اخيها ايضا:
حر ابو راشد على الصيده هوه
الجرح مخلابه فلايرهم دوه
صعصع الحاش الغيوم على الهوه
وكام ينعر بالفلك برعاده
ويذكرنا البيت الثالث بما ورد في موروثنا الديني عن الرعد بأنه بمنزلة الرجل يكون في الابل فيزجرها هاي، هاي كهيئة ذلك، وقيل ما البرق، فقيل:” تلك مخاريق الملائكة تضرب السحاب فتسوقه الى الموضع الذي قضى الله فيه المطر “ نفس المصدر السابق ـ
7 ـ ان الصور الشعرية التي تقدمها فدعة في مديح اخيها او في رثائه هي صور محكمة الابعاد وهائلة المعاني ولم يسبقها شاعر عامي في هذا المضمار، كما انها قادرة على ان تحيا الى يومنا هذا محتفظة بمستواها الرفيع. وكل صورها نسجت بفعل العوامل النفسية اللاشعورية. ومن بين اهم هذه العوامل هو انها لم تستطع اكمال مراحل الاسى والثكل النهائية باستيعاب تلك الخسارة الفاجعة والاقرار بها، انها ـ وحتى وناتها ـ لم تهادن حقيقة ان اخاها قد خطفه المثكل وراح الى الابد. استمع اليها وهي تخاطب الجناز الذي كان يعرف بـ( المجاري) الذي يستخدم الفرس( الكديش) لنقل تابوت اخيها الى النجف الاشرف حيث ستضمه ظلمة القبر:
ابراضه وعلى هونك بكداش
ابراضه كديشك لاتعجلاش
اليم الكبر والكطف له الفراش
فاخوها القتيل ـ بالنسبة لها ـ ليس ميتاً ـ بل هو في مرحلة نوم وسيخرج ويجلس ليستريح على فراشه استراحة المحارب. وان عدم قدرتها على استيعاب حقيقة رحيل اخيها الابدي يعود الى ان تعلقها به وهو حي هو تعلق مفرط يصل حد العبادة، وانه لامر غريب ان تصل امرأة بأخيها الى حدود اسطورية ولاتتورع عن ان ترتفع الى مصاف الالهة القديمةـ كما في الاساطير المعروفة ـ التي تخلق نفسها بنفسها. انها روح لائبة فائرة وحائرة بين قبضة الانا الاعلى بنواهيه الرقابية وبين حماسة العواطف الصاخبة المكتومة:
ادخيل الماهزوه بمهاد
ولالعب وّيه الويلاد
خالج( خالق) روحه لروحه
وجادر على كل ماراد
8 ـ وتحاول فدعة الوصول، حتى بالسمات البشرية، بما هو ارضي الى حدوده القصوى، بل الى مابعد هذه الحدود مستخدمة، في تأثيث الصورة، رموزاً واشياء من بيئتها البسيطة لتشحنها بروح الشعر، في الحقيقة بروحها وانفعالات ولائها لانموذجها الواحد الخارق تقول:
ياموت من يجبل على الخيل
ولو هبت كواطر ( زوابع) مايميل
( بكطار ) ماندك بسناديل
اي ان اخاها ككيان مادي لم يطرق على سندان حداد رغم صلابة هذا السندان ولكنه جاء ببنية مسبوكة سبكا ومرصوصة رصا لان( قطاراً) شذب (قالبه) وسوى بنيانه. ثم ان اخاها هو الصورة النهائية للفحولة حتى انك يمكن ان تعده من الهة الخصب القديمة، فهو:
فحل النخل لكح( لقح ) اولايات
لكحهن ومنه مثمرات
والعجيب هو ان حماستها الحارقة هذه لم تنسها( علميتها) التي لاتتناسب مع مستواها التعليمي والثقافي والبيئي، فنجدها تستدرك لتقول:
ياسور المرمر الماله صواعيد
ياطير يامعذب الصواييد
ياصاجعه الطاحت من ارعيد
ويذكرنا البيت الاخير الذي تقول فيه ان الصاعقة( صاجعه) هي ابنت الرعيد بقوانين الفيزياء التي تشير الى ان سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت وبيت شعر البحتري وهو يصف مواجهته الاولى مع الذئب المفترس:
عوى ثم اقعى فارتجزت فهجته ـ فاقبل مثل البرق يتبعه الرعد.
9 ـ يحفل الشعر العامي، مثله مثل الشعر الفصيح، باستخدام الشيمة للتعبير عن مكنونات النفس، هناك شتيمة ( مظفر النواب) المقدسة: اولاد القحبة قتلتم فرحي، ومثل شتيمة صياد دجلة الذي ارقه الوجد وهو يرى ظفيرة حبيبته ويصيح( انعل او الوداج للشط تترسين ـ شيلي الزلف ليفوك ـ لاينتلف طين) استخدمت الشاعرة الكبيرة( فدعة) الخزعلية شتيمة رائعة وهي تتمنى ان يكون لها خمسة وخمسون ولداً ( لاحظ الرقم) و( لاحظ ايضا ان اول خمسة تريدهم من (علي) ابيها والخمسة الثانية من ( حسين) اخيها ومع اضافة لام التعريف على اسم الفقيد:
اتمنيت البزر خمسه وخمسين ـ خمسه ابعلي وخمسه بالحسين
وخمسه يدكون الهواوين
وخمسه يديرون الفناجين
وخمسه اسباع امسلسلين
وخمسه يزرفون الحياطين
وهنا تأتي الشتيمة المهذبة الحارقة في محلها مؤصلة وموثوقة ومنسقة مع احتدام عصف الاحباط الروحي والرغبة الضاغطة المجهضة فتقول:
وخمسه يزرفون الحياطين
احترك ابيها الجابت اثنين
حك الوحيّد يظل دين
كما انها لاتنسى (الشروط الفنية) اللازمة لبناء الصورة الشعرية، ومنها ان ( التناقض والتضاد) بين اطراف الصورة يشعل روح المقارنة والصدمة في نفس المتلقي:
أخوي جاراته اخواته ـ اخوي الثلاثه مرافجاته
كرم ومراجل والثباته ـ اخوي العبد والضيف اغاته
من معجزات (فدعة) الازيرجاوية
د . حسين سرمك حسن
قبل سنوات، وبعد ان استشهد اخي (عباس) وغولة الحرب، تنتقي اللقى النادرة، فاختطفت اخانا الأصغر والأجمل وبعد ان رزق بمولوده الاول بشهر اصبحت ( نواعي) الشاعرة العراقية( فدعة) هي سلواي لليال مؤرقة طويلة.. ف( فدعة) هي ( خنساء) العراق التي وقفت شعرها على رثاء اخيها القتيل(حسين)، مثلما وقفت الخنساء شعرها على اخيها( صخر بن عمرو بن الشديد) فجعلته علماً في رأسه نار كما تقول في واحدة من قصائدها.. ووفق تعليمات الوصفة العراقية النفسية المجربة التي تقول: ان علاج ضيق الصدور هو زيارة القبور، ومن اجل علاج اكثر دقة ونجوعة، فقد بدأت باستكشاف المعاني العميقة لشعر هذه الشاعرة والوقوف على الجليل من تراكيب صورها الفذة، فوجدت اعجازاً فريداً ولايصدق، خصوصا ان هذه الشاعرة هي امرأة امية من ناحية وعاشت في بيئه محطمة حضاريا من ناحية ثانية وفي زمن ( قبل اكثر من قرن ونصف) مظلم كان العراق فيه مقطوعاً عن الاتصال بالمنجزات التكنولوجية الحديثة من ناحية ثالثة. هناك تشبيهات لاتصدق، وصور لايمكن ان تتوفر لشاعرة امية مثلها عاشت في مجتمع ينخر في جسده المرض والجهل والفاقه، والاكثر اثارة للعجب هي استخدامها معلومات غير موجودة في الثقافة العراقية ومثلت بالنسبة لي لغزا محيراً، واليكم بعضاً من تلك الاكتشافات الباهرة:
1 ـ تقول” فدعة “ في مديح اخيها” حسين “ واستعراض شجاعته الفائقة وخصاله البطولية:
يطك طكه الساجه عن الفيل
ياليث الجوافل منه اتميل
وهنا تطالعنا مسألة محيرة تتعلق بمرجعيات صورة البيت الاول فالساجة هي واحدة الساج والساج هو ضرب من الشجر من الفصيلة الارشدية يعظم جداً، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير، وخشبة صلب جداً، المعجم الوسيط، الصفحة 478 ـ الجزء الاول ـ وهذا النوع من الشجر غير موجود ( في منطقة الفرات الاوسط حيث عاشت الشاعرة ثم اين شاهدت فدعة ( فيلاً) في حياتها؟ والادهى من ذلك انها تصف طقساً دقيقا للفيل شاهدناه في افلام السينما مؤخراً، وهو ان الفيل يقف قرب شجرة الساج ويمضي وقتاً وهو يحك جسمه باغصانها الى ان ينكسر الغصن ويصدر صوتا ”طقة او طكه“ مدوياً، قد يؤدي الى اخافة اي حيوان يتربص به، وينطبق هذا التساؤل على وصف اخر اطلقته على أخيها تقول فيه:
اشهدي للولد يامن شذبتي ازلوف
( درفيل) البحيله ياليهدم الطوف
البعض يعتبر الدرفيل هو حيوان الفيل، ومتى شاهدت فدعة فيلاً يهدم حائطا في بيتها؟ واذا اعتبرنا الدرفيل ـ كما يرى البعض الاخر ـ هو حيوان (الدلفين) يصبح الامر اكثر اثارة للدهشة. وهناك تفسير اخر لمفردة الدرفيل وهو انها تعني الماء الجارف وفيها يمكن ان يستقيم معنى البيت نسبياً.
2 ـ تصف فدعة حجم فجيعتها ودرجة حزنها على اخيها وابيها من قبله، فتقول:
ياعلتي من كبر( نفر)
او تشجي الزغر وتريد تكبر
لونها بصخر ماع او تفسر
ولونها ابسبع جار وتمرمر
ولونها بشجر ماجان خضر
امنحجي يبويه اتصير منكر
و( نفر) هي مدينة سومرية قديمة موقعها الاثري قائم الان قرب بلدة( عفك) في الديوانية. وقبل اكثر من قرن كامل كانت بغداد العاصمة عبارة عن بلدة صغيرة فكيف كانت حالة الديوانية، ثم عفك ومن بعدها نفر؟ من المؤكد ان واقع ( نفر) الجغرافي والسكاني قبل اكثر من قرن كان واقعا بائسا ومزريا ولايمكن لشاعرة ذات مأساة هائلة مثل فدعة ان تجعلها مرجعا تقيس عليه محنتها المدمرة. في داخلي تفسير اخر اعتقد انه يعتمل في ذهن القارئ النابه وهو يعيدني الى طرح موضوعة المناقشة التي نشرتها في ثقافة شعبية قبل اشهر وكان عنوانها: هل الشعر الشعبي وراثة؟ واقترحت التفكير في الموروث السومري المختزن في اللاشعور الجمعي للشاعر الشعبي العراقي.
3 ـ تثور تساؤلات مشابهة لتساؤلات الفقرة الاولى حين تصف فدعة مكان عرس الاسد او تزاوجه مع لبوته وذلك في معرض مديحها لاخيها حيث تقول:
ياحسين ياسور المكلّس
ياكصورة وبثياب عّرس
و(الكصوره) هو ( القسورة) اي الاسد، اما ( شباب) فمعناها كما يقول الحاج( عبد الحسن السوداني) الذي وضع كتيباً عن فدعة اصدره في عام 1967 ثم اعاد طبعه عام 1990 هي مجموعة الشجر العامي الكثيف التي يعّرس فيها الاسد. وقد شاهدت قبل سنوات فلما تلفزيونيا عن حياة الاسود ووجدت ان المواقعة بين الاسد ولبوته تتم خلف شجر كثيف يجعل من الصعب على المصور التقاط صورة دقيقة لما يجري. المهم ان ملاحظة فدعة هذه تتطلب ملاحظة عيانية لسلوك هذا النوع من الحيوان وهو كما نعلم نوع غير موجود في البيئة التي عاشت فيها. وحتى لو افترضنا جدلا وجود نادر لهذا الحيوان في منطقتها فان هذه الملاحظة عن سلوكه الجنسي تتطلب اقتراباً كبيراً من هذا الحيوان المفترس. ومن دون ذلك فان الامر يتطلب ثقافة تفصيلية وواسعة وهو امر مستحيل المنال في تلك البيئة وفي تلك الايام.
4 ـ شرط الثقافة الحالية هذا يعود الى اذهاننا حين نتفحص شعر فدعة، في مواضع عديدة، منها على سبيل المثال الابيات المتبقية من المقطوعة السابقة التي تحدثت فيها عن سمات اخيها الخارقة ووصفته بالاسد، تقول فدعة:
( ينحت) مبارد ماتدرس
حجره عجم وبابها املس
ذيب العلى الفطمه اتغلس
موس ابشحم مايتهيس
نكله فرز يالهذا او بس
ولنتساءل اولاً، من يستخدم مفردة( نحت) بهذه الرهاوة؟ الا تتطلب هذه المفردة وعياً عالياً بمعناها ووقعها النفسي؟ اليست هذه المفردة من مفردات المثقفين في ايامنا؟ وقد تكون مفردة النحت قد انحدرت الى فدعة بفعل ثقافتها الدينية من قوله تعالى” وينحتون من الجبال بيوتاً “ و” وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً امنين “ ولكن معنى النحت هنا: القطع، اي ان فدعة ستقصد هنا فعل النحت الحقيقي، وماذا ينحت اخوها حسين؟ انه ينحت( المبارد ـ جمع مبرد) التي تحد الحديد!!ولاتعود مفردة( ماتدرس) على المبارد من ناحية انها صلبة لاتتقادم ولاتتآكل، ولكنها تشير الى الممدوح الذي اتقن المقدرة على النحت دون ان يدرسها على يدي معلم. وانظر الى هذه الصورة الرائعة التي يعكسها البيت الثالث، ففطيمة الغنم الطرية العود هي اعز طعام على قلب الذئب المفترس، لذيذة وعاجزة ولاتتعب فكيه، لكن ما الذي يفعله اخوها الذئب؟ انه ( يغلّس) عن الصيد الثمين زاهداً لانه مترفع عن الدنايا مهما كان طعم الغنيمة آسراً، ولكن فدعة تكمل ملامح صورة هذا التواضع المقتدر بالاشارة التي تثير القشعريرة في الروح والبدن، فأخوها القوي الحيي هو ـ في نفس الوقت ـ كالموسى التي لايسمع صوتها وهي تقطع اجساد خصومه.
اما البيت الاخير فانه سيعيدنا الى ساحة التساؤلات عن الثقافة الفردية والجماعية ومصادرها فـ( نكلة فرز) هي النقلة الفاصلة والحاسمة في لعبة” الشطرنج “ التي يعد القائم بها فائزاً باللعبة، انها نقلة مميتة. فهل كانت لعبة الشطرنج شائعة لدى( الخزاعل) انذاك؟ ام انها كانت لعبة الشيوخ واطلعت عليها فدعة زوجة شيخ ـ تزوجها ابن عمها( محمد) رئيس بني زريج بعد ان قتل اخاها! ـ؟
5 ـ تتحدث فدعة عن مواقع جغرافية تعكس ايضاً جانباً من ثقافتها واطلاعها الواسع، تقول:
ياحسين خويه جبل( كرحوت)
اليصعد يمتحن والينزل يموت
بحر اتكالب بيك كل حوت
عقلك جسر ياهو اليجي يفوت
وجبل ( كرحوت) حسب المصدر السابق ـ هو” جبل بين البصرة والاحواز، لم يصعده احد لكبره ثم تقول في موضع آخر:
جبل ( قاف) ابو مدلول وازهك
حسين ياصندوك مغلك
ياخوي كلب اختك تمزك
اي انها ترى ان اخاها اكثر شهوقاً من جبل( قاف) فماهو جبل( قاف)؟ في موروثنا الديني، ورد في كتاب” جامع الاخبار “ للشعيري، ونقلاً عن كتاب” عجائب الملكوت “ لعبد الله الزاهد، ان النبي محمد” صلى الله عليه وآله وسلم “ سئل عن عرض قاف وطوله واستدارته فقال(ص) :” مسيرة عرضه الف سنة من ياقوت احمر، قضيبه من فضة بيضاء وزجه من زمردة خضراء له ثلاث ذوائب من نور ذؤابة بالمشرق وذؤابة بالمغرب والاخرى وسط السماء “ و” ذكر انه لما مر عليه ذو القرنين رأى حوله جبالاً صغارا فناداه يا(قاف) ماهذه الجبال التي حولك؟ قال عروقي، ليس في الدنيا مدينة الا وفيها عرق منها، فاذا اراد الله تعالى ان يزلزل ارضا امرني فحركت ذلك العرق فتزلزل تلك الارض، فقال الاسكندر، هل وراءك شيء؟ قال: نعم، ارض طولها خمسمائة عام في خمسمائة عام، فيها جبال من ثلج تحطم بعضها بعضاً، ولولا ذلك الثلج لاحترقتم في حرجهنم “ وعن نفس المصدر ان الامام جعفر الصادق (عليه السلام) سئل عن معنى(ق) فقال(ق) جبل محيط بالارض، وخضرة السماء منه،يمسك الله الارض ان تميد بأهلها “
ان حب فدعة لاخيها القتيل هو حب لاحدود له ويتطلب وقفة تحليلية عميقة من الناحية النفسية لاستكشاف الغاز هذا التعلق المفرط، وقد يكون ذلك في مناسبة قادمة باذن الله.
6 ـ وتنم توظيفات الموروث الديني في شعر فدعة عن فهم حاد لرموزه واستيعاب عميق لمعانيه، تقول في رثاء اخيها لتجسد عظيم حزنها عليه:
ياتون الك ياحسين ثاجب
مابين صلبي والترائب
اي ان حزنها يشبه موقد نار الحمام بلهيبه الحارق المضطرم لايهدأ ولاتخفت السنته، اما مكان هذا الموقد الثاقب ابداً فهو بين الصلب والترائب، وهي توظف بذلك الاية القرانية المعروفة. وتقول في مديح اخيها ايضا:
حر ابو راشد على الصيده هوه
الجرح مخلابه فلايرهم دوه
صعصع الحاش الغيوم على الهوه
وكام ينعر بالفلك برعاده
ويذكرنا البيت الثالث بما ورد في موروثنا الديني عن الرعد بأنه بمنزلة الرجل يكون في الابل فيزجرها هاي، هاي كهيئة ذلك، وقيل ما البرق، فقيل:” تلك مخاريق الملائكة تضرب السحاب فتسوقه الى الموضع الذي قضى الله فيه المطر “ نفس المصدر السابق ـ
7 ـ ان الصور الشعرية التي تقدمها فدعة في مديح اخيها او في رثائه هي صور محكمة الابعاد وهائلة المعاني ولم يسبقها شاعر عامي في هذا المضمار، كما انها قادرة على ان تحيا الى يومنا هذا محتفظة بمستواها الرفيع. وكل صورها نسجت بفعل العوامل النفسية اللاشعورية. ومن بين اهم هذه العوامل هو انها لم تستطع اكمال مراحل الاسى والثكل النهائية باستيعاب تلك الخسارة الفاجعة والاقرار بها، انها ـ وحتى وناتها ـ لم تهادن حقيقة ان اخاها قد خطفه المثكل وراح الى الابد. استمع اليها وهي تخاطب الجناز الذي كان يعرف بـ( المجاري) الذي يستخدم الفرس( الكديش) لنقل تابوت اخيها الى النجف الاشرف حيث ستضمه ظلمة القبر:
ابراضه وعلى هونك بكداش
ابراضه كديشك لاتعجلاش
اليم الكبر والكطف له الفراش
فاخوها القتيل ـ بالنسبة لها ـ ليس ميتاً ـ بل هو في مرحلة نوم وسيخرج ويجلس ليستريح على فراشه استراحة المحارب. وان عدم قدرتها على استيعاب حقيقة رحيل اخيها الابدي يعود الى ان تعلقها به وهو حي هو تعلق مفرط يصل حد العبادة، وانه لامر غريب ان تصل امرأة بأخيها الى حدود اسطورية ولاتتورع عن ان ترتفع الى مصاف الالهة القديمةـ كما في الاساطير المعروفة ـ التي تخلق نفسها بنفسها. انها روح لائبة فائرة وحائرة بين قبضة الانا الاعلى بنواهيه الرقابية وبين حماسة العواطف الصاخبة المكتومة:
ادخيل الماهزوه بمهاد
ولالعب وّيه الويلاد
خالج( خالق) روحه لروحه
وجادر على كل ماراد
8 ـ وتحاول فدعة الوصول، حتى بالسمات البشرية، بما هو ارضي الى حدوده القصوى، بل الى مابعد هذه الحدود مستخدمة، في تأثيث الصورة، رموزاً واشياء من بيئتها البسيطة لتشحنها بروح الشعر، في الحقيقة بروحها وانفعالات ولائها لانموذجها الواحد الخارق تقول:
ياموت من يجبل على الخيل
ولو هبت كواطر ( زوابع) مايميل
( بكطار ) ماندك بسناديل
اي ان اخاها ككيان مادي لم يطرق على سندان حداد رغم صلابة هذا السندان ولكنه جاء ببنية مسبوكة سبكا ومرصوصة رصا لان( قطاراً) شذب (قالبه) وسوى بنيانه. ثم ان اخاها هو الصورة النهائية للفحولة حتى انك يمكن ان تعده من الهة الخصب القديمة، فهو:
فحل النخل لكح( لقح ) اولايات
لكحهن ومنه مثمرات
والعجيب هو ان حماستها الحارقة هذه لم تنسها( علميتها) التي لاتتناسب مع مستواها التعليمي والثقافي والبيئي، فنجدها تستدرك لتقول:
ياسور المرمر الماله صواعيد
ياطير يامعذب الصواييد
ياصاجعه الطاحت من ارعيد
ويذكرنا البيت الاخير الذي تقول فيه ان الصاعقة( صاجعه) هي ابنت الرعيد بقوانين الفيزياء التي تشير الى ان سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت وبيت شعر البحتري وهو يصف مواجهته الاولى مع الذئب المفترس:
عوى ثم اقعى فارتجزت فهجته ـ فاقبل مثل البرق يتبعه الرعد.
9 ـ يحفل الشعر العامي، مثله مثل الشعر الفصيح، باستخدام الشيمة للتعبير عن مكنونات النفس، هناك شتيمة ( مظفر النواب) المقدسة: اولاد القحبة قتلتم فرحي، ومثل شتيمة صياد دجلة الذي ارقه الوجد وهو يرى ظفيرة حبيبته ويصيح( انعل او الوداج للشط تترسين ـ شيلي الزلف ليفوك ـ لاينتلف طين) استخدمت الشاعرة الكبيرة( فدعة) الخزعلية شتيمة رائعة وهي تتمنى ان يكون لها خمسة وخمسون ولداً ( لاحظ الرقم) و( لاحظ ايضا ان اول خمسة تريدهم من (علي) ابيها والخمسة الثانية من ( حسين) اخيها ومع اضافة لام التعريف على اسم الفقيد:
اتمنيت البزر خمسه وخمسين ـ خمسه ابعلي وخمسه بالحسين
وخمسه يدكون الهواوين
وخمسه يديرون الفناجين
وخمسه اسباع امسلسلين
وخمسه يزرفون الحياطين
وهنا تأتي الشتيمة المهذبة الحارقة في محلها مؤصلة وموثوقة ومنسقة مع احتدام عصف الاحباط الروحي والرغبة الضاغطة المجهضة فتقول:
وخمسه يزرفون الحياطين
احترك ابيها الجابت اثنين
حك الوحيّد يظل دين
كما انها لاتنسى (الشروط الفنية) اللازمة لبناء الصورة الشعرية، ومنها ان ( التناقض والتضاد) بين اطراف الصورة يشعل روح المقارنة والصدمة في نفس المتلقي:
أخوي جاراته اخواته ـ اخوي الثلاثه مرافجاته
كرم ومراجل والثباته ـ اخوي العبد والضيف اغاته
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق