حاسة الشم
إنجاز كبير الذي حققته أمل وجعلت منه ضرورة لا بدّ منها في حياتها: إنها تعمل وتعيش بحرية. لكنها، فوق ذلك، ومنذ مدّة، بدأت تحسّ بالخطر قبل وقوعه، وعلى مسافات قد تبدو بعيدة نوعاً ما. تعيش أمل مع عمتها منذ وقت ليس بالبعيد. وعمتها اجتماعية كثيراً، كما يُقال، إذ لا يمرّ يوم دون أن تلتقي بجيران ومعارف وأصدقاء كثر. لكن زياراتها في الغالب تنبع من حاجة ماسّة لهذه الزيارات، ففي أحيان كثيرة تتجاوز هدف تمضية الوقت والترفيه إلى ضرورة حتمية لإنجاز ما تراه مهمة ضرورية
لاحظت أمل أن حاسة شمّها بدأت تقوى شيئاً فشيئاً، ومؤخراً بدأت تشمّ رائحة الأحداث قبل وقوعها. نوع من الحاسة السادسة، كانت تقول لنفسها، لكنها ليست سادسة تماماً لأن الشمّ محسوب بين الحواس الخمس أصلاً.
كانت أمل قد أخبرت عمتها عن الموضوع على نحو مبهم. وفي أحد الأيام، فاجأتها حين طلبت أن تزورا خالتها على الفور.
"سنزورها حتماً، لكني لا أستطيع أن أحدد الوقت الآن. ربما في نهاية الأسبوع.." ردّت العمة والاستفهام ما زال في عينيها.
"لا يا عمتي، يجب أن نزورها في أقرب وقت ممكن."
"هل هناك شيء، لا سمح الله؟"
"لا، ولكني بدأت أشمّ رائحة الدخان."
"وماذا يعني ذلك؟"
"يعني أن خالتي ستموت قريباً، فأنا حين أشمّ رائحة الدخان يموت أحد ما."
"وكيف عرفت بأن خالتك هي التي ستموت؟"
"إحساس غريب يراودني بأن خالتي هي التي ستموت، فالدخان يحيط بها من كل جانب."
بعد ثلاثة أيام توفيت الخالة بنوبة قلبية، مما جعل العمّة تهتم بموضوع حاسّة شمّ أمل، بالإضافة لمواساتها ومداراتها، إذ كانت أمل متعلقة بخالتها كثيراً.
بعد أيام قليلة على وفاة الخالة، اتصلت وسن، ابنة خالة أمل المتوفاة، وأخبرت العمّة بأنها ستزورها مصطحبة معها أخوها الصغير، خالد.
"أرجو أن يطول بقاؤهما عندنا،" قالت أمل حين سمعت الخبر. "أنا أحبّ خالد كثيراً. سيملأ البيت صخباً ومرحاً. متى يصلان؟"
"غداً أو بعد غد."
مساء وصولهما، قالت أمل لخالد بجدية الكبار:
"ليتك تبقى معنا يا خالد. سنهتمّ بكَ كثيراً، والمدرسة قريبة من هنا.. ما رأيك؟"
"لا أستطيع. أنا ووسن يجب أن نكون بجانب جدتي. فهي بحاجة ماسّة إلينا، كما نحن بحاجة إليها. ثم إنها تقصّ علينا كلّ ليلة قصة جميلة."
"سأقصّ عليك قصة جميلة كلّ ليلة أيضاً."
"وسن أيضاً تقصّ عليّ قصصاً جميلة، عن النجوم والقمر، وعن المقالب التي تقوم بها النجمة مع حبيبها القمر."
"لك ما تريد يا خالد. سأحدّثك كلّ يوم، وفي أي وقت تشاء، عن القمر والنجوم والكواكب وعملية المطاردة فيما بينهم."
ضحك خالد وأضاف: "وسنبدأ من الليلة؟"
"موافقة." وبدأت تقصّ عليه كلّ ليلة قصصاً عن مغامرات النجمة مع القمر، وكيف تأتي إليه عبر النافذة وتختبئ في غرفته، تداعبه وتختفي ثانيةً؛ عن جولاتهما معاً وما إلى ذلك.
ذات صباح، تأخر خالد في نومه. حاولت وسن إيقاظه لكن دون جدوى. حاولت العمة هي الأخرى، لكنه لم يستيقظ. اقتربت أمل منه وأخذت تداعبه:
"النجمة هنا لزيارتك. هيا انهض يا عزيزي."
ضحك خالد وفتح عينيه. انحنت أمل وقبّلته من عينيه.
"آه، ما أطيب رائحتك يا خالد! إنها رائحة النوم. إنك مغمور بهذه الرائحة الطيبة. لم أشمّ من قبل مثل هذه الرائحة المنعشة. دعني أقبّلك وأشمّ رائحتك مرة أخرى. آه، ما أطيبها حقاً!"
ابتسم خالد وقال: "وهل للنوم رائحة؟"
"أجل، للنوم رائحة، لكنها لا تكون دوماً منعشة كما هي رائحتك."
ظهيرة ذلك اليوم، حدّثت أمل عمتها عن رائحة خالد. كانت علامات القلق واضحة على محيّاها.
"هل تشعرين بشيء غير طبيعي يا أمل؟" سألت العمة بقلق.
"أجل يا عمّتي، أنا أخاف على خالد من هذه الرائحة. إنها رائحة غير اعتيادية. من تغمره هذه الرائحة الطيبة يموت بعد حين. إنها رائحة غير دنيوية."
"ما هذا القول يا أمل؟!"
"صدّقيني يا عمتي.. أخشى أن شعوري لا يخطئ."
"لا تذكري ذلك أمامه."
- بالطبع، بالطبع.."
بقيت أمل تقصّ على خالد قصصها الجميلة كلّ ليلة. وفي كلّ صباح، كانت تهرع لتوقظه وتشمّ رائحته وتقبّله.
"لماذا كلّ شيء مرتبط عندك بالموت؟" سألتها العمة مرةً. "الدخان يعني الموت، ورائحة النوم كذلك، وربما أشياء أخرى.. لماذا الموت دون سواه؟"
"حين أشمّ رائحة، يا عمتي، حدس ما يجعلني أربط روائح معينة بالموت."
"وهل هناك روائح أخرى لا علاقة لها بالموت عندك؟"
"بالطبع..."
لم يمرّ أسبوع حتى توفى خالد في حادث سيارة. صُعقت العمّة عند سماع الخبر ولم ترفع نظراتها عن أمل لساعات. حاولت أن تتذكر قائمة الروائح التي لا تعني الموت عند أمل، لكنها لم تستطع سوى تذكر رائحة التراب.
إنجاز كبير الذي حققته أمل وجعلت منه ضرورة لا بدّ منها في حياتها: إنها تعمل وتعيش بحرية. لكنها، فوق ذلك، ومنذ مدّة، بدأت تحسّ بالخطر قبل وقوعه، وعلى مسافات قد تبدو بعيدة نوعاً ما. تعيش أمل مع عمتها منذ وقت ليس بالبعيد. وعمتها اجتماعية كثيراً، كما يُقال، إذ لا يمرّ يوم دون أن تلتقي بجيران ومعارف وأصدقاء كثر. لكن زياراتها في الغالب تنبع من حاجة ماسّة لهذه الزيارات، ففي أحيان كثيرة تتجاوز هدف تمضية الوقت والترفيه إلى ضرورة حتمية لإنجاز ما تراه مهمة ضرورية
لاحظت أمل أن حاسة شمّها بدأت تقوى شيئاً فشيئاً، ومؤخراً بدأت تشمّ رائحة الأحداث قبل وقوعها. نوع من الحاسة السادسة، كانت تقول لنفسها، لكنها ليست سادسة تماماً لأن الشمّ محسوب بين الحواس الخمس أصلاً.
كانت أمل قد أخبرت عمتها عن الموضوع على نحو مبهم. وفي أحد الأيام، فاجأتها حين طلبت أن تزورا خالتها على الفور.
"سنزورها حتماً، لكني لا أستطيع أن أحدد الوقت الآن. ربما في نهاية الأسبوع.." ردّت العمة والاستفهام ما زال في عينيها.
"لا يا عمتي، يجب أن نزورها في أقرب وقت ممكن."
"هل هناك شيء، لا سمح الله؟"
"لا، ولكني بدأت أشمّ رائحة الدخان."
"وماذا يعني ذلك؟"
"يعني أن خالتي ستموت قريباً، فأنا حين أشمّ رائحة الدخان يموت أحد ما."
"وكيف عرفت بأن خالتك هي التي ستموت؟"
"إحساس غريب يراودني بأن خالتي هي التي ستموت، فالدخان يحيط بها من كل جانب."
بعد ثلاثة أيام توفيت الخالة بنوبة قلبية، مما جعل العمّة تهتم بموضوع حاسّة شمّ أمل، بالإضافة لمواساتها ومداراتها، إذ كانت أمل متعلقة بخالتها كثيراً.
بعد أيام قليلة على وفاة الخالة، اتصلت وسن، ابنة خالة أمل المتوفاة، وأخبرت العمّة بأنها ستزورها مصطحبة معها أخوها الصغير، خالد.
"أرجو أن يطول بقاؤهما عندنا،" قالت أمل حين سمعت الخبر. "أنا أحبّ خالد كثيراً. سيملأ البيت صخباً ومرحاً. متى يصلان؟"
"غداً أو بعد غد."
مساء وصولهما، قالت أمل لخالد بجدية الكبار:
"ليتك تبقى معنا يا خالد. سنهتمّ بكَ كثيراً، والمدرسة قريبة من هنا.. ما رأيك؟"
"لا أستطيع. أنا ووسن يجب أن نكون بجانب جدتي. فهي بحاجة ماسّة إلينا، كما نحن بحاجة إليها. ثم إنها تقصّ علينا كلّ ليلة قصة جميلة."
"سأقصّ عليك قصة جميلة كلّ ليلة أيضاً."
"وسن أيضاً تقصّ عليّ قصصاً جميلة، عن النجوم والقمر، وعن المقالب التي تقوم بها النجمة مع حبيبها القمر."
"لك ما تريد يا خالد. سأحدّثك كلّ يوم، وفي أي وقت تشاء، عن القمر والنجوم والكواكب وعملية المطاردة فيما بينهم."
ضحك خالد وأضاف: "وسنبدأ من الليلة؟"
"موافقة." وبدأت تقصّ عليه كلّ ليلة قصصاً عن مغامرات النجمة مع القمر، وكيف تأتي إليه عبر النافذة وتختبئ في غرفته، تداعبه وتختفي ثانيةً؛ عن جولاتهما معاً وما إلى ذلك.
ذات صباح، تأخر خالد في نومه. حاولت وسن إيقاظه لكن دون جدوى. حاولت العمة هي الأخرى، لكنه لم يستيقظ. اقتربت أمل منه وأخذت تداعبه:
"النجمة هنا لزيارتك. هيا انهض يا عزيزي."
ضحك خالد وفتح عينيه. انحنت أمل وقبّلته من عينيه.
"آه، ما أطيب رائحتك يا خالد! إنها رائحة النوم. إنك مغمور بهذه الرائحة الطيبة. لم أشمّ من قبل مثل هذه الرائحة المنعشة. دعني أقبّلك وأشمّ رائحتك مرة أخرى. آه، ما أطيبها حقاً!"
ابتسم خالد وقال: "وهل للنوم رائحة؟"
"أجل، للنوم رائحة، لكنها لا تكون دوماً منعشة كما هي رائحتك."
ظهيرة ذلك اليوم، حدّثت أمل عمتها عن رائحة خالد. كانت علامات القلق واضحة على محيّاها.
"هل تشعرين بشيء غير طبيعي يا أمل؟" سألت العمة بقلق.
"أجل يا عمّتي، أنا أخاف على خالد من هذه الرائحة. إنها رائحة غير اعتيادية. من تغمره هذه الرائحة الطيبة يموت بعد حين. إنها رائحة غير دنيوية."
"ما هذا القول يا أمل؟!"
"صدّقيني يا عمتي.. أخشى أن شعوري لا يخطئ."
"لا تذكري ذلك أمامه."
- بالطبع، بالطبع.."
بقيت أمل تقصّ على خالد قصصها الجميلة كلّ ليلة. وفي كلّ صباح، كانت تهرع لتوقظه وتشمّ رائحته وتقبّله.
"لماذا كلّ شيء مرتبط عندك بالموت؟" سألتها العمة مرةً. "الدخان يعني الموت، ورائحة النوم كذلك، وربما أشياء أخرى.. لماذا الموت دون سواه؟"
"حين أشمّ رائحة، يا عمتي، حدس ما يجعلني أربط روائح معينة بالموت."
"وهل هناك روائح أخرى لا علاقة لها بالموت عندك؟"
"بالطبع..."
لم يمرّ أسبوع حتى توفى خالد في حادث سيارة. صُعقت العمّة عند سماع الخبر ولم ترفع نظراتها عن أمل لساعات. حاولت أن تتذكر قائمة الروائح التي لا تعني الموت عند أمل، لكنها لم تستطع سوى تذكر رائحة التراب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق